على الرغم من أن النبي لوط لم يولد في القرية التي أُرسل إليها مثل باقي الرسل إلا أن القرآن ذكرهم باسم إخوانه.[8] تتفقُ القصة المذكورة في التوراة مع ما سرده القرآن بأن دعوات لوطٍ لقومه تم تجاهلها مما تسبب لهم في العذاب وخسف قريتهم.[6][9][10]
قد صح عن النبيﷺ أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم، خوفَ أن يصدُقوا بباطل، أو يكذبوا بحق. ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات؛ في واحدة منها يجب تصديقه، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه. وفي واحدة يجب تكذيبه، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه. وفي الثالثة، لا يجوز التكذيب ولا التصديق، كما في الحديث المشار إليه آنفًا،[14] وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه.[15]
لوط اسمُ علمٍ لأحد أنبياءالله، بعثه الله إلى قومه فكذَّبُوهُ، وأَحْدَثُوا ما أَحْدَثُوا من صنوفِ الفاحشة.[17] وأصلُ كلمة -لوط-، وعلاقتها بلفظة اللواط هو على آراء:
أن (لوط) اسمٌ أعجمي، واسم قومِه أعجمي كذلك. مثل: نوحوإبراهيم عليهما السلام، فكلها أسماءٌ أعجمية رغم ورودها في القرآن. ولا تتعارض عربية لغة القرآن مع وجود أسماء أعلام أعجمية فيه مترجمةً إلى العربية، ومكتوبةً بحروفها. وأنه مصروفٌ وإن كان أعجميًا؛ لكونه اسمًا ثلاثيًا ساكن الوسط كـنوح.[18]واشتق الناس من لفظ اسمه فعلاً من فعل فِعْلَ الفاحشة -أي فاحشة قوم لوط-، ولكنه اشتق من لفظ لوط الناهي عن ذلك لا من لفظ المتعاطي له.[19]
الرأي الثاني يتفق مع الرأي الأول، أن لوط اسمٌ أعجمي. ولكن لفظة (اللواط) ليست مشتقة من الاسم الأعجمي (لوط). بل، هي كلمة عربيةمشتقة لها صور متعددة. فهي من لاط الشيء بقلبي يلوط لوطًا وليطًا. [19] وكذلك فإن تلك اللفظة (اللواط) تأتي بمعنى التصق أيضاً؛ فنقول: لطت الحوض لوطًا، إن أمددته بالطين، أي: طيَّنته بالطين.[20]
على النقيض، يعتقد البعض أن اسم (لوط) بذاته هو اسمٌ عربي. وأنه سمي لوطاً لأن حبه لاط بقلب إبراهيم، أي تعلق به ولصق.[21]
ويري البعض أن الرأي الأخير واضحٌ ضعفه ولبْسه، فالظن بكون اللفظة (لواط) مشتقةً من الاسم (لوط) والربط بينهما لكون الفاحشة ظهرت في قوم لوط هو ربطٌ غير سليم. فالكلمتين ليستا من أصلٍ واحد؛ لأن (لوط) اسم علم أجنبي غير عربي أصلاً، وهو موجودٌ في العبرية بمعنى السكير العربيد [22] -وهذا يُنافي الرؤية الإسلامية للأنبياء قطعاً-. فهو إذاً اسمٌ غير مشتق، لا يُبحث عن مادة اشتقاقه في العربية، ولا عن جذره الثلاثي. أما (اللواط)، فهو كلمة عربية مشتقة، لها صورة فعليةومصدرية، فاللوط: كلمة تدل على اللصوق، يقال: لاط الشيء بقلبي، إذا لصق. وفي الحديث: «الولد ألوط بالقلب».[23][24] فالأرجح أن العرب عندما سموا الفاحشة القبيحة لواطاً، ما أرادوا أخذ الاسم من لوط، وإنما أخذوه من معنى الكلمة في اللغة؛ فإذا كان اللوط يدل على اللصوق، فقد سموا إتيان الرجل للرجل لواطاً؛ لأنهما يلتصقان معاً عند ارتكابهما تلك الفاحشة.[25]
على كلٍّ، فمن المستخدم بكثرة قولهم: شخص لوطيّ، واللوطيُّ يقصدون به الشاذ جنسياً.[26] وحينها يُقصد أن الشخص يعملُ عَمَلَ قومِ لوط.[27] فهي نسبةٌ إلى قومه، وليس إليه، حاشاه. واللفظ المركب تركيباً إضافياً -مثل: قوم لوط- إذا كان الاسم الأول من المتضايفين، لا يتعرف إلا بالثاني منهما: عُدل عن النسبة إلى الأول، ونسب للثاني. فلا يقال هنا: قومي، وإنما يقال: لوطي.[28]
فإذا نُسب إلى الاسم المركب، فإن كان مركبا تركيب جملة، أو تركيب مزج: حذف عجزه وألحق صدره ياء النسب، فتقول في تأبط شرا: تأبطى، وفي بعلبك: بعليّ. وإن كان مركبًا تركيبَ إضافةٍ، فإن كان صدره ابنًا أو أبًا، أو كان معرفًا بعجزه: حُذف صدره وألحق عجزه ياء النسب، فتقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي.[30]
فكما يذكر العلماء المسلمون، فإن هذه النسبة واردةٌ في النصوص، ولا معرةَ فيها على النبي الكريم، فإنه كان منكِرًا على قومه فعلهم القبيح. وكل من يسمعُ هذه الكلمة يعلمُ أن المراد بها فعل الشذوذ الذي كان عليه قوم لوط.[31] فلَاطَ الرجلُ، لِواطاً، ولاوطَ: أَي عَمِل عَمَل قومِ لُوطٍ.[28][32] بل وورد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يأتي امرأته في دبرها: «هي اللوطية الصغرى».[33]
وفي النهاية لابد من ذِكْر أن عِصمة الأنبياء ثابتةٌ في عقيدة أهل السنة، فعُلُوُّ فطرةِ الرسولِ وصفاءُ نفسه، وسمو روحه وصحة عقله، تقتضي أن يكون أنموذجاً رفيعاً بين قومه في أخلاقه ومعاملاته وأمانته، وفي بُعده عن ارتكاب القبائح التي تنفر منها العقول السليمة والطباع المستقيمة.[34] ونبي الله لوط حسب الرواية القرآنية ممن فضَّلهم الله على العالمين.[35]
النسب والعائلة
من وجهة النظر الإسلامية، وكما هو الحال في معظم أنساب الأنبياء، فهناك اختلافٌ في نسبلوط. والسبب في ذلك -كما ذُكر- يرجع إلى أنَّ القرآن الكريموالسنة النبوية لم يتطرقا إلى هذا الأمر؛ فاستُمدَّت المعلوماتُ المتعلقة في نسب لوط وعائلته من مصادرَ متعددة. وعموماً، فإن نسبه يدل على صلة القرابة بينه وبين إبراهيم، وذلك على الرغم من الاختلاف في جهة نسبه؛ فقد ذُكر أنه لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم.[36] كما ذُكر أيضًا أنه ابن عم إبراهيم.[37]
عموماً، فنسبُ لوط حسب ما اشتُهر بين رواة معظم أهلِ التاريخ والسير المسلمين هو: لوط بن هارون بن تارح، وتارح هو آزر، ولوط هو ابن أخي إبراهيم الخليل .[38][39] ويمتدُّ النسبُ حتى يصل إلى سام بن نوح.
يؤكد المؤرخون المسلمون أن حياة لوط كانت معاصرةً بالتأكيد لحياة إبراهيم، إلا أنهم يذكرون كذلك أنه من خلال النظر المباشر في ما ورد في القرآنوالأحاديث الصحيحة، يتبين أنهما لم يوضحا تحديداً الفترة الزمنية التي عاش خلالها لوط أو التي قامت فيها دعوته. على أية حال، يذكر البعضَ أنه بين ولادة إبراهيمونوح 890 سنة كما تشير إليه التوراة، وأنه إذا أضفنا عُمْر نوح وهو 950 سنة تقريبًا،[46] فيمكن حينَها أن نحدد الفترة التي عاش فيها لوط من تاريخ الإنسانية بعد الطوفان.[47]
من المعهود عند أهل الكتاب أن ديار قوم لوط وموقعها الجغرافي هو سدوم الواقعة بالقرب من قرية صوغر.[50] ولكن الرؤية الإسلامية لا تتفق مع الرؤية التوراتية بالضرورة. وكذلك فهي لا تعتد بالإسرائيليات كمصدر يقيني. وتختلف الرؤية الإسلامية عن موطن لوط تبعاً لعدة آراء تتمحور في ثلاثةٍ منها:
تعذر التحقق
يرى بعضٌ من علماء أهل السنة أنه لا يمكن التعرف أو التحقق على أصل قوم لوط، ولا أسماء القرى التي سكنوها، ولا اسم المنطقة التي كانوا فيها. وذلك باتباع منهج التوقف عند حدود ما ورد نصًّا في القرآنوالأحاديث الصحيحة. وأنه لا يصح بتاتاً الذهاب إلى الاسرائيليات أو كتب الأخبار والتاريخوالأساطير؛ وذلك لعدم اليقين فيما أوردته تلك الروايات.[51]
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ من نمرود وقومه من أرض العراق، ﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ يعني، الشام بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار ومنها بعث أكثر الأنبياء.[55]
والحاصل أن قصة لوط مع قومه إنما هي في بلاد الشام وليست في الهند أو السند أو اليمن أو غيرها من الأماكن.
ويصِحُّ ثانياً، كون قرية سدوم هي موضعهم من بلاد الشام، وذلك أن كونها بسبيلٍ مقيم، [59] يستدعي كونها على طريق ثابتة يسلكها الناس ويرون آثارها.[60] ويمكن إنزال الناس هنا على أنهم قريش، أهل مكة؛ لأن الخطاب موجهٌ إليهم في الآيات من سورة الحجرالمكية.[61] فقد كان أهل قريش يمرون على ديار قوم لوط مرة في الصباح ومرة في الليل، وذلك وفق ترتيب سيرهم في السفر.[62] وهذا أيضاً مما نُصَّ عليه في القرآن.[63] ويقول الفخر الرازي:
هذه القرى وما ظهر فيها من آثار قهر الله وغضبه، لبسبيل مقيم ثابت لم يندرِسْ ولم يُخفَ، والذين يمرون من الحجاز إلى الشام يشاهدونها.
وفيما سبق مع الوضع في الاعتبار سلوك القادم على ناقته -من جزيرة العرب إلى بلاد الشام- وادي عربة مروراً بالبحر الميت، وكون هذا الطريق أسهل عليه من صعود مرتفع مدينة العقبة؛ دليلٌ كافي للاعتقاد بكون وادي الأردن طريقاً مسلوكةً في كافة الاتجاهات فيما مضى. وكذلك فإنه توجد نتائج لأبحاث حديثة تدعم هذا الاعتقاد أكثر وترسيِّه، حيث تثبت وجود طرق وممرات على طول امتداد الشاطئ الشرقي للبحر الميت.[64] فقد كان أهل الجزيرة العربية يسلكون إلى بلاد الشام طريق الشاطئ الشرقي للبحر الميت عبر وادي الأردن.[65][66]
والحاصلُ أن العرب كانت تعرف موقع قرى قوم لوط بل أتوها ورأوها، وزيادة: لم يعتبروا! ولذا أنكر القرآن عليهم الرؤية مع عدم الاعتبار.[67][68] ولهذا، وفي موضعٍ آخر، فإن القرآن يسألهم صراحةً عن مدى عقلانيتهم وقدرتهم على استنباط العبر منهم.[69] فهو يسألهم أليس لكم فيكم عقول تعتبرون بها؟ ولو لم يكونوا يعرفون تلك القرى ومواقعها لما أنكر عليهم عدم تفكرهم في عقاب الله للظالمين.[70]
هناك فريقٌ ثالث يأخذ من الإسرائيليات وغيرها، مما لا يثبت يقيناً من وجهة النظر الإسلامية. فيزيدون مثلاً على كون لوط سكن في مدينة سدوم، أنها كانت مدينة كبيرة عامرة تقع على ضفاف بحيرة طبرية شديدة ملوحة المياه، وأن تربتها كانت شديدة الخصوبة، وأن سدوم قد أحاطتها أربع ممالك انتشرت حولها هي: عامورا ودوما وصبعة وصعوة،[38] وكذا فقد أنشأت فيما بينها حلفاً برئاسة ملك سدوم واسمه بارع، [75] وعلى كل مدينة سورٌ عظيمٌ مبنيٌّ من الحجارة والرصاص،[76] وكانت سدوم آنذاك أكبر تلك الممالك حيث كانت مركزاً تجارياً ومحطةً للمسافرين بسبب موقعها، وقدروا عدد سكانها بحوالي أربعة آلاف شخص.[49][77]
أما إذا أردنا التفصيل، فورود اسمه في القرآن يُلاحظُ انه كان على ثلاث حالاتٍ:
ذِكْر قصته مع قومه بتفاصيل
وملامح القصة تختلف من سورة لسورة، لكنها كلها تقريباً تشمل نفس المواضيع العامة، وهي بيان انحراف قومه وشذوذهم، وكذلك دعوته إياهم للطهارةوالعفة من تلك الأفعال القبيحة المنكرة، وأخيراً بيان رفضهم لتلك الدعوة وإنزال العذاب بهم. وتتكرر هذه الحالة في ثماني مرات.
في سورة الأعراف من الآية 79 إلى الآية 84، [81] تحدثت تلك الآياتُ عن إنكار لوط على قومه إتيانهم الذكران من دون النساء، أتبع ذلك ردهم عليه بالمطالبة بإخراجه فقط لأنهم يتطهرون. حكت بعد ذلك الآيات تدمير القوم المسرفين وإنجاء الله للوط وآله المؤمنين.[81]
وفي سورة هود من الآية 69 إلى 83 [82] تذكر الآيات بعضاً من ملامح أخرى من قصة لوط متقاطعةً مع قصة إبراهيم. أمَّا ما خُصَّ بلوط وحواره مع الملائكة فشملته الآيات من 77 إلى 83.[83] تبدأ الآيات بتمهيد وهو حلول الملائكة ضيوفاً على إبراهيم وهو لا يعرفهم، وإخبارهم له أنهم ذاهبون للتدمير النهائي لقرية أهل لوط. وحينها، جادل إبراهيم معهم لتأخير التدمير لعل قوم لوط يؤمنوا. وامتدح الله خليله إبراهيم ونعته بالحلم والأوه والإنابة، ثم عاتبه بشكل لطيف مخبراً إياه أن الأمر قد آن أوانُه وأنه لا يرد عنهم العذاب. ثم أخبرت الآيات عن مجيء الملائكة إلى لوط في صورة رجال حسان، وأنه ضاق بهم لِما يعلمه من شذوذ قومه وظنه أنه سيأتون ليأخذوا ضيوفه. ثم واجههم لوط ودافع عن ضيوفه. أعلمته الملائكة بعد ذلك أنهم ملائكة من عند الله وأنه يجب أن يسري بأهله المؤمنين ليلاً؛ لأنه على وقت الفجر، سينزل عليهم العذاب وسيتم تدميرهم بقلب قراهم ورميهم بحجارة من سجيل.[82]
في سورة الحجر كذلك، اتصلت قصة لوط مع قصة إبراهيم وذلك في سياقِ ذي آياتٍ أقصر من الآية 57 إلى الآية 77.[84] ومرة أخرى، تحاورُ الملائكةإبراهيم، حيث استنكرهم إبراهيم بادئ الأمر ثم لما علم شأنهم، سألهم عن مهمتهم، فأخبروه أن الله أرسلهم لتدمير المجرمين: قوم لوط. وذكرت الآيات بعد ذلك وصول الملائكة إلى لوط، وكذلك طلبهم أن يسري بأهله ليلاً لأن الدمار واقع بقومه عند الصبح، وأيضاً هجوم قومه يريدون اللواط مع ضيوفه، ودفاع لوط عنهم ثم أخيراً، تشنيع لهم ثم الصيحة بهم وقت الشروق وتدميرهم بيوتهم وترك مواقعهم وآثارهم لمن طلب علاماتٍ أو عبر.[84]
وفي سورة الشعراء، تحدثت السورة بشكل متسارع في الآيات من 160 إلى 175 [85] عن دعوة لوط قومه للتقوى وترك إتيان الذكران وتوبيخهم على ترك ما خلق الله من الأزواج، مقرراً ومنكراً عدوانهم وطغيانهم. هدده قومه بعد ذلك بإخراجه، فأنذرهم وتبرأ من عملهم. ثم أتى تدمير القرية بمطر السوء. مع الإشارة بوضوح إلى ترك الآية والعبرة للاتعاظ لمن بعدهم.[85]
وفي سورة النمل، وبشكلٍ موجز تمثَّل في خمس آياتٍ من الآية 54 إلى الآية 58.[86] ذكرت تلك الآيات إنكارَ لوط على قومه الشذوذ معرضًا بشكل صريح بعدم إعمال عقولهم وبجهلهم، ومرة أخرى، يهددون بإخراجه هو وأهله من القرية فقط لأنهم يحبون التطهر. ثم حكت الآيتان التاليتين إنجاءَه هو وأهلَه إلا امرأتَه العجوز، فقد أُهْلِكت مع من أُهْلِك بالمطر المُهلك.[86]
وفي سورة العنكبوت، تداخلت قصة لوط مجدداً مع قصة إبراهيم من الآية 26 إلى الآية 35.[87] ويقرر لوط في السورة كما في الأعراف أن تلك العادة القبيحة المستنكرة -إتيان الذكران- لم يسبقهم لها أحد من قبل. وينهاهم فيها عنها وكذلك ينكر عليهم بعضَ جرائمهم الأخرى، ومنها قطع الطريق وإتيان المنكرات في أنديتهم. ثم ذكرت القصة أنهم كذبوه وطلبوا العذاب واستعجلوه في استهزاء واستخفاف. وهنا يدعوا لوط ربَّه بالنجاة من هؤلاء الفسدة. في حين كانت الملائكة تحدث إبراهيم في تدمير قوم لوط وهنا أبدى إبراهيم قلقه على لوط. لكن الملائكة طمأنته بإخباه بإنجاء لوط وأهله مع المؤمنين. وأخبرت الآيات التي تلي ذلك عن ضيق لوط الشديد لما أتته الملائكة وأعلمته بإهلاكهم بسبب فسقهم وفجورهم. ومرة أخرى تنبه الآية الأخيرة على ترك آيةً لمن يُعمل عقل ومن يتعظ بعدهم.[87] كما تقَرَّرَ في السورة أيضاً -وقبل أي شيء- إيمانُ لوطٍبإبراهيمَ وهجرتُه معه.[88]
وفي سورة الصافات من الآية 133 إلى الآية 138،[89] تتحدث الآيات عن إنجاء الله للوط وأهله المؤمنين وتدمير قومه الكافرين، في إجلاءٍ للصورة التباينية. كذلك، فقد لفتت نظر العرب الذين بمرون على ديارهم أثناء سفرهم للتجارة، ودعوتهم للاعتبار.[89]
وفي سورة القمر، وردت الآيات من 33 إلى 40، [90] متحدثةً عن تكذيب قوم لوط، وتعذيب الله لهم، وكذلك إنجائه لوطاً وأتباعه. وأيضاً، تذكرُ مراودةَ قومِه له عن ضيوفه، مع وجود عذاب وقتي حلَّ بهم، وهو طمس الأعين.
وفي سورة الفرقان: لُمِّح إلى قريتهم التي أمطرت مطر السوء [67]، مع لومٍ واضح لمشركي مكة العرب الذين لم يتعظوا أو يأخذوا عبراً من ذلك مع مرورهم على مساكنهم.
وفي سورة الذاريات: أشارت الآيات [93] إلى لوط وإلى قومه دون أن تسميهم ألبتة، ولكن يُفهم من سؤال إبراهيم عن مهمة الملائكة وإبلاغهم له أنهم سيدمرون قريةً مسرفةً ليس فيها إلا بيت واحد من المسلمين المؤمنين؛ يُفهم أنهم متوجهون إلى قرية لوط لإهلاك قومه وإنجاء لوط وأهله.[93]
وفي سورة النجم، إشارة أخرى إلى المؤتفكة التي أهوى به الله وغشَّاها من العذاب نصيبها التي تستحق.[94]
وأخيراً، فقد ذكر اسم لوط في سورة التحريم، [95] ولكن ليس بشخصه. إنما ذكرت امرأة لوط مع امراة نوح كمثل للمرأة الكافرة، ومشيرةً إلى أن الفاسد فاسد، وأن هلاكه حتمي، ولا ينفعه في ذلك الزواج أو الاقتران عموماً أو القرابة بشخص صالح.[96]
ذِكْر الاسم فقط
ذُكِر اسم النبي لوط دوناً عن القصة وذلك مع أنبياءَ أُخر بنفس الآية، وذلك في أربعةِ مواضع.
نبي الله لوط من الأنبياء الذين تم ذكر قصته مع قومه في القرآن بشكل مفصل، وإن كان ذلك في متفرقات في سور القرآن المختلفة. تُجمع تلك المتفرقات وتسرد قصة لوط حسب الرؤية الإسلامية بشكل موحد تقريبًا حسب ما يُستنبط مما ورد فقط في القرآن الكريم.
وبُعث لوطٌ إلى قومه، وعُرفوا بأنهم قوم لوط؛ حيث لم يحدِّد القرآن الكريم اسمَ القوم ولا مكانَ تواجدهم على وجه التحديد. وعلى الرغم من قدومه من العراق مع إبراهيم، فقد بيَّن القرآنُ الكريم أنّ لوطًا منهم. بل، وصفه بأنه تجمعه مع قومه الأخوة. فربما لأنه عاش معهم فترةً فعرفهم، وعرف صفاتهم.[49]
ويذكر علماء المسلمين أن قوم لوط كانوا يسكنون سدوم، وهي أكبر مدنهم، وكانت تحيط بها قرى وردت أسماؤها في كتب التاريخ والأثر. بدون شاهد قرآني. فقط من تواتر روايات المؤرخينوالمفسرين المسلمين واستنباطهم لبعض الحقائق من بعض ما ورد في نصوص العهد القديم وتم تناقله بينهم.[74]
على كلٍّ، فبالرجوع إلى القرآن فقوم لوط هم أصحاب المؤتفكة، والإفك معناه الكذب، فهؤلاء صرفوا الأمور عن حقيقتها فكانوا في أبشع صور الانحراف والشذوذ غير الموجود أو المعهود من الأمم السابقة.[100] بل، ابتكروا شذوذًا غايةً في القبحِ لم يسبق لأحد أن مارسه قبلهم في العالمين، وهو إتيان الذكور شهوةً دون النساء، كما جاء على لسان لوط حين دعا قومه، قال:
وذكر عمرو بن دينار في تفسير تلك الآية قال: ما رُئي ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط.[101]
وقومُ لوط لم يكتفوا بتلك الفاحشة، بل أضافوا إليها صنوفًا أخرى من التصرفات القبيحة، لا تقلّ فحشًا وسوءًا عن هذه الفاحشة منها قطعُ السبيل، وممارسة الفاحشة في النوادي أمام نواظر الناس دونما حياءٍ أو خجلٍ.[100]
وفي قطع السبيل أقوال، قيل: كانوا قطاعاً للطريق. قاله ابن زيد. وقيل: كانوا يأخذون الناس من الطرق لقضاء الفاحشة. حكاه ابن شجرة. وقيل: إنه قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال. قال وهب بن منبه أي: استغنوا بالرجال عن النساء .[103] ولم يذكر القرآن الكريم السبب الرئيس لارتكابهم الفاحشة، سوى أنهم يفعلون ذلك للشهوة فقط، الشهوة التي مارسوها بلا هدف ولا قيمة. حيث كانت مسيطرة على عقولهم وقلوبهم ومجريات حياتهم؛ فأوردتهم المهالك والويلات.
فقط يشير القرآن إلى صفاتٍ قبيحةٍ إن مكنَّها الإنسان من نفسه أفسدت عليه عقلهوقلبه فترديه. فيوبخ القرآنُ قومَ لوط على لسان نبيهم صفات العدوان وتجاوز الحد والإسراف الغير عقلاني، وكذلك الجهل وعدم إعمال التفكير العقلي الفطري السليم.
أي: كيف توصلتم إلى هذه الحال؟! صارت شهوتكم للرجال، وأدبارهم محل الغائطوالنجو والخبث! وتركتم ما خلق الله لكم من النساء من المحال الطيبة التي جبلت النفوس إلى الميل إليها، وأنتم انقلب عليكم الأمر فاستحسنتم القبيح واستقبحتم الحسن! بل أنتم قوم تجهلون، متجاوزون لحدود الله متجرئون على محارمه.[106] بعد استفراغ لوط وُسعَه في هداية قومه، وصل قوم لوط إلى نهايتهم؛ فبعث الله الملائكة لإهلاكهم. تذكر القصة القرآنية أنهم مروا أولاً على إبراهيم حاملين معهم البشرى بالولد بعد كبر وضعف:
في النهاية، عرف إبراهيم بأن مهمتهم هي إهلاك قوم لوط. فأخذ إبراهيميجادلالملائكة في قوم لوط، وجداله كان من باب الرحمة بهؤلاء القوم، وإعطائهم فرصة للتوبة والرجوع عما هم فيه، فكما هو معلوم، كان إبراهيم قريباً من قوم لوط ويعرف أخبارهم.
جاءوا يبشر بعضهم بعضا بأضياف لوط وصباحة وجوههم واقتدارهم عليهم. وذلك لقصدهم فعل الفاحشة فيهم. فجاءوا حتى وصلوا إلى بيت لوط فجعلوا يعالجون لوطًا على أضيافه، ولوط يستعيذُ منهم، [111] ويقول:
فلم يلامس نداءُ لوط عقولَ هؤلاء الرجال ونخوتهم، بل إنهم صرحوا بأنهم لا يريدون شيئاً من البنات ولن يريدوا، وأنه يعلمُ تحديداً ماذا يريدون. فلسان حالهم كأنهم يقول: لارشيد بيننا يا لوط.[100]
تمنى لوط حينها أن لو كان له عشيرة ومِنعة تساعده على هؤلاء المنحرفين؛ لذا تصرّف كالبشر، فطلب المعونة وقت الشدائد ممن حوله، ولأنّ لوطًا لم يكن منهم، بل جاء مهاجرًا مع إبراهيم لم يكن له عشيرة وقوة مادية؛ فلما سمعته الملائكة ظهرت على حقيقتها: ضيوفك يا لوط ليسوا بشرًا، بل ملائكة. فلوط إذن يرجح أنه لم يعرف أنهم ملائكة، وإلا لما أصابه كلّ ما أصابه من الضيق والحرج؛ فقالت الملائكة للوط:[100]
عن قتادة، قوله: وذُكر لنا أن جبريل استأذن ربه في عقوبتهم ليلة أتوا لوطًا، وأنهم عالجوا الباب ليدخلوا عليه، فصفقهم بجناحه، وتركهم عُميًا يتردّدون.[118] أخيراً، أمرت الملائكة لوطًا بالخروج من القوم، وذلك بأمر إلهي؛ لأنًّ العذاب واقع عليهم مع الصبح التالي. فخرج لوط بأهله وقت الظلمة قبل شروق الشمس ومعه أهله إلا زوجته الكافرة. ثم أنزل الله العذاب على قوم لوط، حيث تذكر الرواية القرآنية أن قُراهُم جُعل عاليها سافلها، وأُمطر عليهم حجارةٍ من سجيل معلمة على رؤوسهم.
يذكر القرآن أن لوط كان ابن أخ إبراهيم الذي أرسل إلى مدينتي سدوم وعمورةكنبي بعد هجرته إلى كنعان، لكن سكان المدن قاموا بالاستهزاء به ورفضوا وجوده في بلادهم. وذات يوم، زارت مجموعة من الملائكةِ إبراهيمَ كضيوف لتبشيره أن زوجته سارة حاملٌ بإسحاق. وأثناء زيارتهم، أخبروه أيضا أن الله قد أرسلهم إلى شعب لوط المذنب ليهلكهم برمي حجارة من الطين.[121] وإنقاذ لوط ومن آمن به، إلا زوجته فستموت في الدمار، مع ذكر الملائكة أنها كانت من المتخلفين عن النبي.[122][123][124]
تجاوز أهل المدينتين حدود الله، كما ذكر القرآن، فإن ذنوبهم تضمنت عدم حسن الضيافة والسرقة، [125] فقد كرهوا الغرباء وسلبوا المسافرين، بخلاف سوء المعاملة والاغتصابوالزنا. كانت خطيئتهم المتعلقة بسوء السلوك الجنسي هي التي اعتبرت شنيعة ومنكرة بشكل خاص، حيث كان لوط يوبخهم ويقرعهم بشدة لأنهم كانوا يأتون الرجال جنسيًا بدلًا من النساء.[7][126]
حثهم لوط على ترك طرقهم الآثمة، لكنهم سخروا منه وهددوا بطرده من المدن.[125] بالقول أن هذا الرجل وأهله يريدون أن يكون أنقياء متطهرين. صلى لوط إلى الله وطلب الخلاص من عواقب أفعالهم الخاطئة.
جاء ملاكان متنكرين بزي رجل وسيم إلى لوط، وانزعج لوط بسبب عجزه عن حمايتهم من أهل المدن الذين يريدون بهم الفاحشة.[127] طالب سكان المدن لوطَ صراحةً بتسليمهم ضيوفه.[6][128]
أشار إلى ضيوفه ببناتي، لكن على عكس المعتقدات اليهودية المسيحية،[129] عرضهم لوط على الزواج الشرعي بعد اعتناقهم التوحيد الإسلامي،[130] كبدائل تقيهم من رغباتهم الغير مشروعة،[131] ربما مصدر إرشاد، لكنهم كانوا بلا هوادة.[132][133] فأجابوه بأنا لسنا بحاجة إلى بناتك وإنك تعرف جيدًا ما نريد. يقول القرآن أنهم تحركوا وهم في حالة سكر أعمى وفي جنون كأنهم يقتربون من الموت.[6][134]
يرى المفسرون مثل ابن كثيروالقرطبيوالطبري أن كلمة بنات لا تعني بنات لوط بالمعنى الحرفي، فسروا ذلك بأن النبي مثل الأب لأمته. لذلك كان لوط يوجه قومه إلى الابتعاد عن خطاياهم والدخول في علاقات صحية مع بنات الأمَّة، أي النساء بشكل عام.[135]
ثم كشفت الملائكة عن هوياتهم الحقيقية للوط،[6] وأخبرته أنهم أرسلوا من قبل الله لينزلوا على أهل هذه البلدة سخطا من السماء لأنهم أهل سوء. نصحوا لوط بمغادرة المكان ليلا وعدم النظر إلى الوراء، وأخبروه أن زوجته ستترك بسبب طبيعتها الخاطئة.[136]
حفاظا على إيمانه بالله، غادر لوط المدن ليلًا مع أفراد أسرته المؤمنين وغيرهم ممن آمنوا به. ولما جاء الصبح، قلب الله المدن رأسًا على عقب، وأمطر عليها حجارة صلبة كالطين، مما أنهى حياة أهل سدوم وعمورة.[6][137]
قصة لوط في الفكر الإسلامي
استنبط عدد من العلماء المسلمين كثيراً من الأحكام والمواعظ من قصة النبي لوط. لعل أهمها هو تحريم الشذوذ الجنسي. وفيما يلي تفصيل لبعض استنباطاتهم:
شدَّد الإسلام العقوبةَ على هذه الخطيئة، لما تقود إليه من إفساد الحياة الاجتماعية وانحلال القيم والأخلاق في المجتمع. ولعلماء المسلمين رأيان واضحان فيما يخص عقوبة فيمن ثبُتت ممارسته للواط. فمع إجماع العلماء على حرمة هذه الجريمة، وعلى وجوب أخذ مقترفيها بالشدة، إلا أنَّ العقوبة كانت على ثلاثة آراءٍ واضحٌ تباينهما:
لا حد للائط
فهؤلاء يقولون أن اللائط لا يُقتل ولا يُحَدُّحد الزنى، وإنما يعزَّر بالضرب والسجن ونحو ذلك. واحتج من يقولون هذا القول، ومنهم أبو حنيفة بأن الصحابة اختلفوا فيه،[141] واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نصٌّ صحيح، وأنه من مسائل الاجتهاد، والحدود تدرأ بالشبهات.[142] قالوا: ولا يتناوله اسم الزنى، لأن لكل منهما اسمًا خاصًّا به.[143]
حدُّ اللواط هو حدُّ الزنا
فإن كان محصنًا فعقوبته الرجم، وإن كان غير محصن فعقوبته الجلدوالتغريب. وهذا رأي الإمام أحمد. ومما بُنِي عليه هذا الحكم، الحديث: «إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان».[144]
حدُّ اللواط هو القتل
فيجب قتل الفاعل إن ثبُت عليه بالطريقة المذكورة في التشريع الإسلامي، ولكن على اختلافٍ في طريقة القتل، وذلك على مذاهب ثلاثة: [145][146]
الثاني: رجم من عمل هذا العمل. ومن يقولون بهذه العقوبة، يستدلون، في الأغلب، بحديث رجمعليًّ لأحد مرتكبي هذه الفعلة.[150] ومن أصحاب هذا الرأي الشافعيُّ، في أحد أقواله. حيث قال بأنه بهذا نأخذُ رجم من يعمل هذا العمل، محصنًا كان أو غير محصن.
الثالث: هو الحرق بالنار. ويذكرُ من يقولون بهذا الرأي أن أبا بكر جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء، فسأل أصحاب رسول اللهﷺ عن ذلك. فكان من أشدهم يومئذٍ قولًا علي بن أبي طالب، قال: هذا ذنبٌ لم تعص به أمة من الأمم، إلا أمةٌ واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقَه بالنار. فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.[151] ويردُّ من يُعارض هذا الرأي بأنه قد نهى النبيﷺ عن الإحراق بالنار.[152] ويُرجِعون تلك الروايات التي وردت عن الصحابة إلى الرد للضعفوالإنكاروالوضع. وأنها وإن حدثت، فذُكِر أنها كانت للجثة. وأنها أيضًا لا تثبتُ اطرادًا بهذه الروايات.[153]
حكم اللواط في الإسلام ورؤية الشرائع السماوية الأخرى
لا تبتعد أحكام اللواط في الإسلام وحدودها كثيراً عن الرؤية التوراتيةوالإنجيلية. فتلك الأديان السماوية حرَّمت هذه الجريمة. [149] فقد جاء في التوراة لعن اللوطية ومعاقبتهم بالقتل. أما النصرانية، فإنها لم تستقذر هذه العلاقة الجنسية الشاذة فحسب، بل ذهبت أبعد من هذا حين نظرت إلى الممارسات الجنسية السليمة المشروعة بين الأزواج على أنها قذارةٌ أيضاً.[149]
على كلًّ، فالشذوذ الجنسي منتشر في البلاد المسيحية. بل، قنَّنَتْهُ بعضها وأباحته طالما كان بين بالغين دون إكراه. وتكونت آلاف الجمعيات والنوادي التي ترعى شؤون الشاذين جنسيًا، فهم خرجوا من دائرة السرية إلى دائرة العلنية، وأصبح لهم نواديهم وباراتهم وحدائقهم وسواحلهم ومسابحهم.[154] من منظور المفكرين المسلمين، هذا يبدي بوضوح أن الجاهلية الغربية الحديثة قد انحطت عن الدرك الأسفل الذي انحدر إليه قوم لوط، وأنهم يعانون من الإيدز وغيره من الأوبئة، ولا يعلم أحد عقوبات الله الأخرى التي تنتظرهم بسبب ما هم فيه.[155] فهذه جاهلية حديثة في أوروباوأمريكا ينتشر فيها هذا الانحراف الجنسي الشاذ انتشارًا ذريعًا، بغير ما مبررٍ إلا انحراف عن الاعتقاد الصحيح، وعن منهج الحياة الذي يقوم عليه.[156][157]
وعلى كلٍّ، فحين يقصُّ القرآن شأن قوم لوط، فإنه يريد أن يحذر هؤلاء الذين يؤمنوا مِنْ عمل قوم لوط وعاقبة فعلهم.[158] وذلك ليتدبروا ويعتبروا ولا يعتدوا إلى ما لا يحل لهم، وليعلموا أن عقوبة من عمِل عمَل قوم لوط هو اللعنة من الله، ومن رسوله، مع شدة العقوبة في الدنيا والفضيحة كذلك، وما أُعِدَّ لهم في الآخرة من العذاب أعظم إن لم يتوبوا.[49] يقول النبي محمد:
لعن الله مَن عمل عمل قوم لوطٍ، لعن الله من عمل عمل قوم لوطٍ، لعن الله من عمل عمل قوم لوطٍ.[159]
مبهمات في قصة لوط وإيضاحاتها
ترد في قصة لوط، كشأن كل قصص الأنبياء، الكثيرُ من الأشياء المُبهمة أو المُسْتَغْرَبَةِ لعوام قارئي القرآن. وكذلك فقد أُدخل على رواية القصة كثيرٌ مما ليس مذكورًا في المصادرِ الإسلامية. فهناك عدة روايات لقصة قوم لوط، يقول المفكرون الإسلاميون بأنها ليست بالضرورة كلُّها زائفة، ولكنه لا يمكن الوثوق بها. [15][13][12] ولذلك، قام العلماءوالمفكرونوالمفسرون الإسلاميون بشرح ما أُبهِم، وكذلك بالرد على كثيرٍ من تلك الأمور، وكذلك مما يسمونه شبهاتٍ في قصة النبي الكريم.[160]
عرض لوط على قومه
فيوردُ الكثيرون أنه كيف يجوز لنبيٍّ أن يذكرَ بناته على قومٍ مثل هؤلاء. وهو ما ورد نصًّا في آية قرآنية.[113] يردُّ العلماء المسلمونوالمفسرون على هذا أنَّ لوطًا أراد أن يصرفَ قومَه إلى الأفضل، فاقترح عليهم الزواج بهن. ولكنهم على أيَّة اختلفوا في المراد بهؤلاء الذين ذكرهم القرآنُ بأن لوطًا قال أنَّهنَّ «بناته»:
فالبعضُ يقولُ أنَّ المقصود هنَّ بناتُ الأُمَّة. فلوط يقول أنهنَّ أحلُّ لكم، يقصدُ بناتهم. فالنبيُّ أبٌ لِأُمَّتِهِ. يقول بهذا الرأي كثيرٌ من المفسرين، ومنهم مكي بن أبي طالب.[161]
والآخرون يذكرون أنَّه قَصَدَ بناته هو.[162] ولكن، أراد التَّزويجَ. وإلَّا فلا معنى لتغيير المنكر، ودعوتهم إلى منكرٍ آخر.[163]
بينما يقولُ رأيٌ ثالث، أنه لم يعرض بأحد. إنما قال لهم هذا لينصرفوا. وهذا رأي عكرمة.[161]
هل خرجت امرأة لوط معه
في إبهامٍ آخر، اختلف العلماء المسلمون في آيةٍ وردت في سورة هود. تذكر الآية أن النبي لوط أُمِر بأن يخرج ليلاً بأهله ويخرج من القرية التي سيصيبها عذاب الله في الصباح. ونَهَتْهُم جميعًا ألا يلتفتوا ولا ينظروا إلى القرية الهالكة وراءَهم. ثم بعد ذلك مباشرةً، اسْتُثْنَتْ امرأةُ لوط.[116] وهنا، اختلف المفسرون المسلمون: هل أُمِر لوط بأن يأخذ امرأته معه أم لا؟
ذكر بعضُهم إلى أن القول بمعنى: فأَسْرِ بأهلك إلا امرأتك. أي أن استثناء امرأته كان من الفعل الأمر: أَسْرِ. وهكذا، فإن لوطًا أُمِرَ أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نُهي أن تخرج معه، وأمر بتخليفها مع قومها.
ذهب مفسرون آخرون أن المقصود هنا: ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك، فإن لوطًا قد أخرجها معه على أيةِ حال. ولكن النهي عن الالتفات كانت هي مستثناة منه. فقد نُهي لوط ومن معه عن الالتفات، سوى زوجته، فإنها التفتت فهلكت لذلك.[164][165]
قلب جبريل للقرية بجناحه
اختلف العلماء المسلمون أيضًا في كون الملك جبريل قد قلب قرية قوم لوط بجناحه. تذكر عدَّة أحاديث هذا الأمر. ولكنَّ المفسرون المسلمون يقولون أنهم لم يجدوا في السنة النبوية من كلام الرسول ما يُثبِتُ كون الملك جبريل قد قلب مدائنهم بطرف جناحه حتى صار عاليها سافلها. ولكنَّ تعذيب الله تعالى قوم لوط عن طريق جبريل وُجِدَ بالفعل في كلام بعض التابعين،[166] ولا يُعلم إن كان مستندهم من الإسرائيليات أو غيرها. مِن هذا الذي يذكر قول مُجاهد الذي نقله ابن كثير.
يعتقدُ المفكرون المسلمون أنَّ قصة قوم لوط كما ذُكرت في القرآن الكريم تكشف عن هدف خاص، وهو معالجة لون خاص من ألوان الانحراف عن الفطرة، وعن قضية ليس محورها الأصيل هو قضية الألوهيةوالتوحيد والذي كان مدار قصص الأنبياء الأخر.[169] يذكر المفكرون كذلك أنَّه شاء الله أن يخلق البشر ذكرًا وأنثى،[170] ومن ثمَّ ركبهما وفق هذا الطبع وجعلهما صالحين مجهزين عضويًا ونفسيًا للالتقاء والتناسل. وبعد هذا يكون الالتقاء فيه لذة حقيقية ورغبة أصيلة، يعطي ذلك دافعًا مقابلَ المتاعب التي يلقيانها بعد ذلك في الذرية من حملووضعورضاعة، ونفقة وتربية وكفالة. وكذلك تكون ضماناً لبقاءهما ملتصقين في أسرة تكفل الأطفال الناشئين الذين تطول فترة حضانتهم أكثر من أطفال الحيوان. هذه هي سنة الله،[171][172] والانحراف عنها إلى الشذوذ الجنسي عقوبتُه شديدة، بالضبط كما كان عقابُ قوم لوط أشدَّ من أي عقاب لَحَق بالأمم السابقة.
من الأساسي في الدين الإسلاميوأخلاق الإسلام خلق إكرام الضيف. ويعتقد المفكرون المسلمون أن من إكرام المضيف الاهتمام بالضيف وحمايته من كل شيء يُضايقه أو يؤذيه حتى لا يناله سوء أو مكروه، طالما أنه في ضيافته وحماه. وهذه الفائدة يمكن أخذها مما ذكره القرآن الكريم من استياء لوط بوصول الضيف؛ لا لأنه لا يكرم الضيوف، بل فقط لشعوره بعدم القدرة على حمايتهم من شر قومه. لقد ضاق بهم ذرعًا لهذا الشعور بالعجز وعدم إتمام واجب الضيافة على أتم وجه.[169] وهذه سنة النبيينوالمرسلين؛ فنبي الله إبراهيم قد أكرم هؤلاء الأضياف ذاتهم وسارعهم بعجلٍ سمين كما وضحت ذلك آية قرآنية.[174]
ذكرت قصة لوط في القرآن الكريم أساليب حوارية اتبعها النبي لوط لمحاولة التأثير على قومه واستمالتهم إلى الصواب. بالطبع، فقد باءت تلك المحاولات بالفشل كما ذكرت القصة القرآنية ذلك. إلا أن المفكرونوالعلماء المسلمون استخلصوا من ذلك أنه من سياسة الداعية، أو الذي يرغب في التأثير على الناس بشكل عام، أن يستخدمَ أسلوب الإثارة لكوامن الغرائز والخصائص النفسية والنخوات والأعراف القبلية. فمثلًا تذكر القصة القرآنية أن لوطًا ذكر قومه بتقاليد البدو في إكرام الضيف وعدم الخزي للمضيف.[176][113] وكذلك فقد خاطبهم وناداهم (يا قوم)، [113] أي ذكرهم بالناحية القومية. ثم حاول أن يوقظ فيهم مشاعر الرقابة لله.[113] وأخيرًا، فقد استنكر عليهم عدم الرشد وتصرفات الطيش والسفه. [113] وهكذا، فإن من يرغب في الدعوة، أو التأثير الإيجابي عمومًا، يجب عليه أن يمتلك المرونة في خطابه، وأن يكون أسلوبه مؤثرًا وبليغًا.[177][169]
النصب
يعتقد الكثير من المسلمين أن بني نعيم في فلسطين تضم قبر لوط في وسط المدينة. يقع القبر داخل مسجد مستطيل الشكل به ساحة داخلية ومئذنة. تم بناء عتبة البوابة الشمالية للمسجد من الحجارة التي تعود إلى العصر البيزنطي عندما كانت توجد كنيسة في هذا الموقع. يسبق ارتباط بني نعيم بلوط في الإسلام، [178] حيث تشير أعمال العالم الكاثوليكيجيروم في القرن الرابع الميلادي إلى أن القبر يقع في بلدة تسمى كفر باريشا، التي من المحتمل أن تكون الاسم السابق لبني نعيم.[179]
يقول التاريخ أن قبر بنات لوط يقع على تل قريب من الجنوب الشرقي من بني نعيم بجوار مزار مخصص للوط،[180] المعروف بمقام النبي ياتين. تقول الأسطورة المحلية أن لوط صلى في الموقع وأن آثار أقدامه لا تزال مرئية في صخرة هناك.[181] تم العثور على آثار أقدام مزعومة للأنبياء وغيرهم من رجال الدين في المزارات الإسلامية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.[182]
^ ابجدهوزحطNoegel، Scott B.؛ Wheeler، Brannon M. (2010). "Lot". The A to Z of Prophets in Islam and Judaism. Rowman & Littlefield Publishers, Incorporated. ص. 118–126. ISBN:978-0810876033. مؤرشف من الأصل في 2016-04-26. اطلع عليه بتاريخ 2013-06-26.
^According to the BnF: "Lūṭ (Loth) s'enfuit suivi de ses filles; sa femme reçoit une pierre sur la tête; ruines des cités détruites", Gallica linkنسخة محفوظة 15 November 2016 على موقع واي باك مشين.
^ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب. بيروت: دار لسان العرب. ج. 2. ص. 413.
^رضا، محمد رشيد (1953م). تفسير القرآن الكريم الحكيم الشهير بالمنار (ط. 2). دار المنار. ج. 8. ص. 509. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |تاريخ= (مساعدة)
^ ابالأصفهاني، الراغب (1992م). تحقيق عدنان داودي (المحرر). مفردات ألفاظ القرآن الكريم. دمشق: دار القلم. ص. 750. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
^زكريا، أحمد بن فارس. عبد السلام محمد هارون (المحرر). معجم مقاييس اللغة. دار الفكر. ج. 5. ص. 221.
^الثعالبي (1912م). عرائس المجالس. القاهرة: مطبعة الأمة. ص. 102. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
^الحفني، عبد المنعم (2004م). موسوعة القرآن الكريم العظيم (ط. 1). مكتبة مدبولي. ج. 1. ص. 937.
^ابن سلام، القاسم (1964م). محمد عبد المعيد خان (المحرر). غريب الحديث (ط. 1). حيدر آباد: مطبعة دائرة المعارف العثمانية. ج. 3. ص. 222.
^الخالدي، صلاح (2007م). القصص القرآني (ط. 2). دمشق: دار القلم. ج. 2. ص. 480.
^مسعود، جبران (1992م). الرائد: معجم ألفبائي في اللغة والأعلام (ط. 1). بيروت: دار العلم للملايين. ص. 773. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
^أنيس، إبراهيم؛ منتصر، عبد الحليم؛ الصوالحي، عطية؛ خلف الله أحمد، محمد (2004م). المعجم الوسيط (ط. 4). القاهرة: مجمع اللغة العربية - مكتبة الشروق الدولية – عبر Archived Edition, archive.org. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)، |عمل= تُجوهل (مساعدة)، وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^القرماني، أحمد بن يوسف (1992م). فهمي سعد؛ أحمد، حطيط (المحررون). أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ (ط. 1). بيروت: عالم الكتب. ج. 1. ص. 82. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
^ ابمجموعة مؤلفون (1999م). الموسوعة العربية العالمية (ط. 2). الرياض: مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع. ج. 21. ص. 201.
^ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن عمر. تفسير ابن كثير – عبر Open Edition، مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^فنسنك، أرند جان (1936م). الشنتناوي وآخرون (المحرر). دائرة المعارف الإسلامية [Encyclopedia of Islam] (ط. 1). الهيئة العامة المصرية للكتاب. ج. 1. ص. 27. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |سنة= (مساعدة)
^الطبري، محمد بن جرير. تفسير الطبري. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ص. 561. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^ ابجدعبد الرحمن حماد، جهاد (2007). قصة لوط بين القرآن الكريم والتوراة. نابلس.{{استشهاد بكتاب}}: صيانة الاستشهاد: مكان بدون ناشر (link)
^الطبري، محمد بن جرير. تفسير الطبري. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ص. 160. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^القرطبي، أبو عبد الله محمد بن أحمد. الجامع لأحكام القرآن: تفسير القرطبي. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ص. 399. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: تفسير السعدي. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ص. 55. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^السعدي، عبد الرحمن بن ناصر. تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: تفسير السعدي. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^الطبري، محمد بن جرير. تفسير الطبري. السعودية: مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ص. 530. {{استشهاد بكتاب}}: |عمل= تُجوهل (مساعدة) وروابط خارجية في |عمل= (مساعدة)
^القرآن51:33: "To bring on, on them, (a shower of) stones of clay"
^القرآن29:31: "When Our Messengers came to Abraham with the good news, they said: 'We are indeed going to destroy the people of this township: for truly they are (addicted to) crime.قالب:'"
^القرآن11:70: "But when he saw their hands went not towards the (meal), he felt some mistrust of them, and conceived a fear of them. They said: 'Fear not: We have been sent against the people of Lot.قالب:'"
^القرآن15:58: "They said: "We have been sent to a people (deep) in sin"
^Adler; E. Swanson, Charles (eds.). Encyclopædia Britannica (بالإنجليزية). Vol. 16. p. 604. {{استشهاد بكتاب}}: الوسيط |محرر2-الأول= يفتقد |محرر2-الأخير= (help)
^اليماني، عبد الرحمن المعلمي. صفاخان البخاري، عدنان (المحرر). آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحي المعلمي (ط. 2). مكة المكرمة: عالم الفوائد للنشر والتوزيع. ج. 6. ص. 215.
^الطبري، محمد بن جرير. تفسير الطبري. مشروع المصحف الإلكتروني بجامعة الملك سعود. ج. 12. ص. 515.
^Sharon، Moshe (1999). "Bani Na'im". Corpus Inscriptionum Arabicarum Palaestinae (CIAP) Volume Two: B-C. BRILL. ص. 12. ISBN:9004110836. مؤرشف من الأصل في 2013-10-11. اطلع عليه بتاريخ 2013-06-26.
^Stone، Michael E. (2006). Apocrypha, Pseudepigrapha and Armenian Studies. Collected Papers: Volume I. Peeters. ص. 693.