في العقدين 1020 و 1030م، بعد سقوط الخلافة، أنشأ ملوك الطوائف الذين قسموا الدولة إلى 22 دويلة؛ منها: غرناطةوإشبيلية، وألمريةوبلنسية، وطليطلةوسرقسطة، والبرازينوالبداجوز، ودانية والبليارومورور. وبينما ورثت تلك الدويلات ثراء الخلافة، كان فيها عدم استقرار الحكم، والتناحر المستمر فيما بينها، وهما سببان رئيسيان في جعلها فريسة لمسيحيي الشمال، ووصل الأمر إلى أن ملوك الطوائف كانوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس، وكانوا يستعينون به على بعضهم البعض.
كان كل ملوك الطوائف الموجودين في هذه الفترة يدفعون الجزيةلألفونسو السادس ومن معه، إلا أمير مملكة بطليوسالمتوكل بن الأفطس؛ فإنه كان لا يدفع جزية للنصارى، فأرسل له ألفونسو السادس رسالة شديدة اللهجة، يطالبه فيها بدفع الجزية، كما يدفعها أمراء الممالك الإسلامية المجاورة، فأرسل له رسالة يقول فيها:
«وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويهدد بجنوده المتوافرة وأحواله المتظاهرة، ولو علم أن لله جنودًا أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون، بالتقوى يعرفون، وبالتوبة يتضرعون، ولئن لمعت من خلف الروم بارقة فبإذن الله، وليعلم المؤمنين، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويعلم المنافقين. أما تعييرك للمسلمين فيما وهَى من أحوالهم، فبالذنوب المركومة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك لعلمت أي مصاب أذقناك؛ كما كانت آباؤك تتجرعه، وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، لما أجبر أجدادك على دفع الجزية، حتى أهدى جدك إحدى بناته إليه. أما نحن؛ إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروده؛ ليس بيننا وبينك إلا السيوف، تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصرها في ليلك ونهارك، وبالله وملائكته المسوِّمين نتقوى عليك ونستعين؛ ليس لنا سوى الله مطلب، ولا لنا إلى غيره مهرب، وما تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين: نصر عليكم؛ فيا لها من نعمة ومِنَّة، أو شهادة في سبيل الله؛ فيا لها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفرج بما نددت ويقطع بما أعددت».
وختم رسالته وأرسلها إلى ألفونسو السادس، الذي لم يستطع أن يرد، وما استطاع أن يرسل له جيشًا ليحاربه. [بحاجة لمصدر]
موقف المعتمد بن عباد
كان المعتمد بن عباد يحكم أشبيلية، وكان يدفع الجزية لألفونسو السادس ملك قشتالة، وعندما جاءه ذات يوم وزير ألفونسو لأخذ الجزية، أساء الأدب مع المعتمد، وطلب بكل وقاحة، أن يسمح لزوجة ألفونسو الحامل أن تضع مولودها في أكبر مساجد المسلمين؛ لأنه تم التنبؤ لها أنها إذا ولدت هناك سيَدِينُ المسلمون بالولاء لولدها، فغضب المعتمد، وقتل الوزير، وعندما علم ألفونسو السادس بقتل وزيره، غضب وسار إلى أشبيلية وحاصرها بجيشه، وبعث إلى المعتمد بن عباد يخبره أنه سيمكث هنا، ولا يوجد ما يضايقه سوى الذباب، ويأمره أن يبعث له بمروحة ليروح بها الذباب، فلما وصلت هذه الرسالة إلى المعتمد قلبها، وكتب على ظهرها: «والله؛ لئن لم ترجع لأروحنَّ لك بمروحة من المرابطين»؛ هدد المعتمد بالاستعانة بدولة المرابطين، فخاف ألفونسو، وجمع جيشه وانصرف.
اجتماع ملوك الطوائف
فكر ملوك الطوائف في الكارثة التي توشك أن تعصف بهم، وهي سقوط دولة الأندلس، فقاموا بعقد اجتماع يضم كافة أمراء الأندلس وعلماء الأندلس، وأشار العلماء في ذلك الاجتماع بالجهاد، وطبعا عارض الأمراء ذلك الرأي بشدة، بحجة عدم قدرتهم على الوقوف وحدهم في مواجهة القشتاليين، فاقترح العلماء مرة أخرى الاستعانة بالمرابطين، فتخوف الأمراء من ذلك الأمر؛ لأن المرابطين دولة قوية، ولو هزمت النصارى لأخذت دولة الأندلس، ولضمتها إلى دولة المرابطين، فتجادلوا كثيرا حتى قام المعتمد على الله بن عباد وقال خطبة كان آخرها مقولته الشهيرة: «والله لا يُسمَعُ عني أبدًا أنني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم علي اللعنة في منابر الإسلام مثلما قامت على غيري، تالله؛ إنني لأوثر أن أرعى الجمال لسلطان مراكش على أن أغدو تابعًا لملك النصارى وأن أؤدي له الجزية، والله لَأَنْ أرعى الإبل في المغرب خيرٌ لي من أن أرعى الخنازير في أوروبا»، فلما انتهى من خُطبته تشجع كلٌّ من المتوكل على الله بن الأفطسوعبد الله بن بلقين، ووافقا على طلب العون من المرابطين لمحاربة قشتالة، وقام هؤلاء الأمراء الثلاثة بإرسال وفد مهيب من الوزراء والعلماء إلى دولة المرابطين في المغرب.
الاستنجاد بيوسف بن تاشفين
عندما وصل الوفد إلى يوسف بن تاشفين فرح بهذه الفرصة، للجهاد في سبيل الله، وجهز سبعة آلاف رجل، وجهز السفن، وعبر مضيق جبل طارق في الخميس من منتصف ربيع الأول479هـ / 30 يونيو1086م، ولكن في وسط المضيق ترتفع الأمواج، ويهيج البحر، وتكاد السفن أن تغرق، فيقف ذليلا خاشعا يدعو ربه، والناس تدعو معه؛ يقول: «اللهم إن كنت تعلم في عبورنا هذا البحرَ خيرا لنا وللمسلمين فسهل علينا عبوره، وإن كنت تعلم غير ذلك فصعبه علينا حتى لا نعبره»، فتسكُن الريح ويعبر الجيش، ويدخل يوسف بن تاشفين أرض الأندلس، ويستقبله الناس استقبال الفاتحين، ويدخل إلى قرطبة، ويدخل إلى أشبيلية، ثم يعبر إلى اتجاه الشمال في اتجاه مملكة قشتالة، حتى وصل إلى الزلاقة شمال الأندلس، وقد انضم إليه من أهل الأندلس حتى وصل جيشه إلى حوالي ثلاثين ألف رجل، وهناك وقعت معركة الزلاقة.
والحقيقة أن المؤرخين جميعا يقفون حيارى أمام هذا الحدث التاريخي الهائل الذي وقع في سهل الزلاقة، ولم يتطور إلى أن تتقدم الجيوش الإسلامية لاسترداد طليطلة من أيدي النصارى، خاصة أن الملك الإسباني كان قد فقد زهرة جيشه في هذه المعركة، ولا يختلف أحد في الرأي بأن الطريق كان مفتوحا تماما، وممهدا لكي يقوم المرابطون والأندلسيون بهذه الخطوة.
ملوك الطوائف بعد الزلاقة
بعد أن عاد يوسف بن تاشفين إلى أرض المغرب، حدثت الصراعات بين أمراء المؤمنين الموجودين في بلاد الأندلس على غنائم معركة الزلاقة، وحدثت الصراعات على البلاد المحررة، فضج العلماء، وذهبوا إلى يوسف بن تاشفين يطلبون منه الدخول مرة أخرى إلى الأندلس لتخليص الشعب من هؤلاء الأمراء، فتورع يوسف بن تاشفين من محاربة المسلمين، فأتته الفتاوى من كل بلاد المسلمين، حتى جاءته من بلاد الشام من أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، وكان معاصرا له، وجاءته الفتاوى من أبي بكر الطرطوشي عالم مصر، وجاءته الفتاوى من كل علماء المالكية في شمال إفريقية؛ جاءته الفتاوى أنه عليه أن يدخل البلاد، ويضمها إلى دولة المرابطين، حتى ينجد المسلمين مما هم فيه، ففعل ودخل الأندلس سنة 483هـ بعد موقعة الزلاقة سنة 479هـ بأربع سنوات، وهناك حاربه أمراء المؤمنين، وممن حاربه المعتمد بن عباد. استطاع يوسف بن تاشفين أن يضم كل بلاد الأندلس، وأيضا تحرير سرقسطة، وضمها إلى بلاد المسلمين، وأصبح يوسف بن تاشفين أميرا على دولة تصل من شمال الأندلس بالقرب من فرنسا إلى وسط أفريقيا. وبهذا انتهى عصر ملوك الطوائف، الذي امتد لسبع وخمسين سنة من 422هـ إلى سنة 479هـ.
الأندلس في القرن الخامس الهجري
الوضعية السياسية بالأندلس خلال القرن الخامس الهجري
منذ نهاية القرن الرابع الهجري، استبد الحجاب بالسلطة الفعلية في الأندلس، وتعاقب على العرش مجموعة من الخلفاء الأمويين العاجزين عن توحيدها والمتصارعين فيما بينهم، فضعف الحكم المركزي بقرطبة، وانتهى بسقوط الخلافة الأموية سنة 422هـ / 1031م.
ونتيجة لذلك؛ انقسمت الأندلس إلى مجموعة من الإمارات الصغيرة المتطاحنة، سميت بمماليك الطوائف، فشجع هذا الوضع على توحد بعض المماليك المسيحية، وشرعت في التوسع على حساب بلاد المسلمين، وتمثل ذلك في احتلالها لطليطلة عام 478هـ / 1085م.
بدأ عصر ملوك الطوائف بالأندلس عام 422هـ، عندما أعلن الوزير أبو الحزم بن جهور سقوط الدولة الأموية بالأندلس، وكان هذا الإعلان بمثابة إشارة البدء لكل أمير من أمراء الأندلس ليتجه كل واحد منهم إلى بناء دويلة صغيرة على أملاكه ومقاطعاته، ويؤسس أسرة حاكمة من أهله وذويه، وبلغت هذه الأسر الحاكمة أكثر من عشرين أسرة؛ أهمها:
فصار كل منهم، (ملوكَ الطوائف)، يشن الغارة على جاره إلى أن ضعفوا عن لقاء عدو في الدين، حتى لم يبق في أيديهم إلا ما هو ضمان إتَاوةٌ في كل عام مقررة.[2]
الحياة الاقتصادية بالأندلس خلال القرن الخامس الهجري
ظل اقتصاد الإمارات الأندلسية منتعشا، رغم التجزئة السياسية. فقد أقيمت مزروعات متنوعة وغنية، كالزعفرانوقصب السكر. كما نشطت صناعة المواد الاستهلاكية والمصدرة، وتوسعت تجارة الموانئ الأندلسية عبر البحر المتوسط؛ بل شملت أيضا سواحل الهندوالصين وشرق أفريقيا.
الحياة الثقافية بالأندلس في القرن الخامس الهجري
رغم الانقسام السياسي؛ بلغت النهضة الثقافية ذروتها بالأندلس مع ملوك الطوائف في القرن 5هـ/11م، وشملت الميادين الأدبية والعلمية، وحفل العصر بالعديد من رجال الفكر والعلم والأدب. كان من عوامل هذه النهضة، رعاية الملوك لهذه الحركة الثقافية، ومشاركة بعضهم فيها، وتنافسهم في اقتناء الكتب، وتأسيس المكتبات والمدارس، ثم دخول صناعة الورق للأندلس في هذا القرن. وقد أسهمت الأندلس في عصر الطوائف المفكك سياسيا في إثراء الثقافة والفكر العربي، وإغناء التراث الحضاري الإسلامي.