بُنِيت المدينة بأمر من المنصور بنصر الله بين عامي 946و972م، وهي محصنةٌ ومحاطةٌ بسورٍ له أربعة أبواب مُلبسة بالحديد وهي: باب قبلي وباب شرقي أُطلق عليهما باب زويلة، وباب جوفي وباب غربي يُسمى باب الفتوح، وباب القصارين،[ْ 1] وبُنِيت فيها قصور مُحاطة بالحدائق والغرس وجُلِبت إليها المياه من المناطق المجاورة لها، ومن بين هذه القصور: مجلس الكافور وحجرة التاج ومجلس الريحان وحجرة الفضة وقصر الخلافة.[1] كانت المدينة لفترة قصيرة مركزاً إدارياً قوياً للدولة الفاطمية، التي كان الجزء الأكبر منها يمتد في شمال أفريقياوصقلية، وظلت بمثابة عاصمة للدولة أثناء حكم الزيريين إلى حين سنة 448 هـ الموافقة لـ 1057م، حيث دُمِّرت بعدما غزتها قبائل بني هلالوبني سليم. ونُهِبت كل آثارها وبقاياها خلال القرون التي تلت ذلك، حيث لم يبقَ منها حالياً سوى أطلال طمرتها الرمال كما نُهِبت حجارتها ومواردها.[ْ 2][ْ 3]
أصل التسمية
ترجع تسمية المدينة بهذا الاسم (المنصورية) نسبة إلى مؤسسها المنصور بنصر الله، ويُقصد بكلمة «المنصور» الفوز والنصر،[2] فقد كانت الوثائق الرسمية الصادرة عن السلطة مثل العملة لا تذكر المدينة إلا باسم «المنصورية»، وقد سادت هذه التسمية طوال القرن الثالث الهجري حتى حدود سنة 439 هـ، حيث كان كُتَّاب القصر المعاصرين للفاطميين لا يستعملون سوى الاسم الرسمي، أي المنصورية، كالقاضي النعمان الذي ولاَّه المنصور قضاء المدينة فلا يذكر في كتابه «المجالس والمسايرات» سوى اسم المنصورية، وكذلك الشأن بالنسبة لابن الأباروالمقريزي في كتابه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء» والقضاعي في كتاب «الحلة السيراء»، كما ذكر ابن عذاري وهو يسرد الأحداث حسب تسلسلها التاريخي: «وفي سنة 336هـ/948م أمر المنصور أبو الطاهر ببناء صبرة واختطّها وسماها المنصورية»،[ْ 4] ولا يذكر صبرة إلى حلول سنة 441 هـ/1050م عندما يتحدّث عن اجتياح القبائل العربية لمملكة المعز بن باديس قائلاً: «وأمر السلطان كافّة الناس بانتهاب المزروعات المحيطة بالقيروان وصبرة»،[ْ 5] وتُسمى في مصادر أخرى بصبرةكالمقدسي البشاري في كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، حيث قال: «وصبرة بناها الفاطمي أول ما ملك الإقليم واشتق اسمها من صبر عسكره في الحرب»،[ْ 6]، ويقول أيضاً: «وأمّا إفريقية فقصبتها القيروان ومن مدنها صبرة»، كما أن هناك من يجمع بين الاسمين فيُطلق عليها صبرة المنصورية، فقد ذكر المؤرخ ابن حماد أن الاسمين كانا متواجدين في نفس الوقت، وأن صبرة كان الأكثر شيوعاً.[ْ 7] واستناداً إلى نص ابن شرف الذي أورده ابن عذاري في تبديل السكة عن أسماء بني عبيد، فقد كانت السكة تُضرب باسم المنصورية إلى حدود عام 438 هـ/1047 م في حين أنه منذ 439 هـ/1048 م، أصبحت تُضرب باسم صبرة نتيجة للتغيرات السياسية في الدولة الفاطمية، واستمر اسم صبرة على السكة عامي 439 هـ/1048 مو440 هـ/1049م ثم توقف ليحل محله اسمي عز الإسلام والقيروان من سنة 441 هـ/1050م لغاية 446 هـ/1055م.[ْ 8]
وكانت المدينة دائرية كما كانت مدينة بغداد في الأصل، وربما جاء اختيار هذا التخطيط بالذات بنِيَّة تحدي الخلافة العباسية السنية في بغداد.[12] وقد بلغ عرض سورها 12 ذراعاً[ملاحظة 1][13] وهو مصنوع من الطوب المحروق المطعم (أو المعشق) بملاط الجير. وكانت المسافة بين الأسوار والمباني الداخلية مساوية لعرض طريق سريع، [14] ويُذكَر أنه كان فيها أيام عمارتها 300 حمام أكثرها للديار.[ْ 11]
كانت المدينة تحتوي على مسجد جامع،[14] وكان قصر الخليفة قريباً من وسط المدينة الذي كان يحتوي قصوراً أُخرى كانت تُستخدم لأغراض احتفالية أو دبلوماسية أو إدارية.[15] سُمِّي القصر الرئيسي بالصبرة وغطت أساساته مساحة 44 هكتار (110 فدان).[14] وقد وصف المؤرخ ابن حماد القصر بأنه عبارة عن مبان مرتفعة مُحاطة بالحدائق والمياه كانت تُظهِر ثروة وقوة الخليفة،[16] وعندما تُوفي المنصور سنة 341 هـ/952م دُفِن في قصره بالمنصورية، ثم قام بالأمر بعده ابنه المعز لدين الله الذي سار على نسق أبيه، فقد كان كلفاً بالعمارة فبنى كثيراً من القصور منها قصر الإيوان والمعزية، وأنشأ البساتين في المنصورية وضواحيها، ومن هذه البساتين ذلك الذي أقامه في جهة تُعرف «بواد القصارين» على مقربة من المدينة.[ْ 12]
واكتملت المنصورية في عهد المعز لدين الله، الذي حرص على تهيئة إمدادات المدينة من المياه وبناء قناة، والتي كان عرضها حوالي 36 كيلومتراً وكانت مبنية على أساس مشابه لتلك التي بناها الأغالبة. بنى المعز لدين الله القناة محل القديمة وأضاف لها 9 كيلومترات لتزويد المنصورية بالمياه.[17] وبنى أيضاً صالة كبيرة. وكان عرض أعمدتها الضخمة يزيد عن المتر (3 أقدام و 3 بوصات)، وجُلِبت هذه الأخيرة من سوسة[18] التي تبعد مسافة يوم كامل مشياً عنها. كما بنى قصراً له وهو من قاس أبعاده ووضع تصميمه بنفسه، وأنشأ وسطه بركة كبيرة أسماها بحراً لاتساع سطحها، ثم أقام الجسور لتصل القصر الداخلي بالقصر الخارجي. ولم يكتمل بناء المدينة حتى عام 361 هـ (972م) أي قبل انتقال المعزلمصر بعامٍ.[19]
الأهمية
كانت المدينة في المقام الأول مُخصَّصة للإقامة الملكية. فهي تحتوي على القصوروالحدائق، كما كانت بها حديقة حيوان تحتوي على الأسود، إضافة إلى الثكنات والإسطبلات الملكية. وقد نُقل إليها المنصور حوالي 14,000 أسرة من كتامة، وبنى بها سوقاً. وفقاً لابن المهذب، قال: «أمر المعز تُجَّار القيروان أن يأتوا إلى محلاتهم وورش العمل في المنصورية في الصباح، والعودة إلى ديارهم وأسرهم في المساء.»[17] وقد كان يتم جمع مبلغ 26,000 درهماً فضياً يومياً على دخول البضائع إلى المدينة من خلال أبوابها الأربعة، كما نقل إليها المنصور مُختلف المصالح الإدارية من المهدية، فمنها كانت تصدر الأوامر، وتخرج الجيوش الفاتحة.[20]
وبعد أن انتقل الخُلفاء الفاطميين لمصر، ظلت المنصورية عاصمة للزيريين، الذين أصبحوا الحكام المحليين لخمسة وثمانين عاماً.[2] وقد بنى الحاكم الزيري منصور بن بولقان قصراً لنفسه في المنصورية.[7] وهُناك جرى الزواج الفخم في 1022م-1023م لحفيده الشاب الزيري المعز بن باديس. وقد بنى منزلاً صيفياً خارج المدينة، وقد قُدِّمت مجموعة كبيرة من المنسوجات المُصَنَّعة جيداَ، وعزف الموسيقى عدد كبير من العازفين خلال حفل الزواج.[25] وقد حكم المعز بن باديس، إفريقية في عهد الفاطميين للفترة 1015م-1062م، وأعاد بناء سور القيروان كما قام ببناء جدارين على جانبي الطريق من القيروان إلى المنصورية.[7] وأمر بنقل الحرف اليدوية والتجارية من القيروان إلى المنصورية.[9]
في عام 2009، كانت المدينة في حالة مُزْرِية، فقد اكتسحها البناء الفوضوي والزحف العمراني والتعدي على المواقع الأثرية التي قُدِّرت مساحتها بحوالي 50 هكتاراً، إذ أصبحت هذه الأخيرة حيًّا سكنياً به حوالي 300 مسكن، كما أصبحت أجزاء كبيرة من المدينة خاصة بعد الثورة التونسية في خطر، وقد اختفى بعض ما كانت تتميز به المدينة على مر التاريخ، حيث لم يتبقَّ منها سوى بعض من الحفريات والمآثر التاريخية، وقد ساهمت دوائر مسؤولة بتونس في انتشار هذا الوضع، وذلك بسبب ما تم توفيره من مساكن اجتماعية لذوي الدخل الضعيف، كما أنها لم تتمكن من حسم الإشكال العقاري بالمدينة.[ْ 13][ْ 14][ْ 15]
وفي هذا السياق قرَّر مجلس ولاية القيروان أخد التدابير اللازمة للحفاظ على ثرات هذه المدينة، خاصة بعدما أفاد المعهد الوطني للتراث أنه لم يتبقَّ من المخزون التراثي للمدينة سوى قُرابة 16 هكتاراً تقريباً مُعظمه نادر.[ْ 16]
وكان سكان المدينة قد وَجَّهوا عريضة إلى المصالح الإدارية للدولة للمطالبة بتدخل عاجل لحل المشاكل التي تُعاني منها المنطقة منذ عام 1989، وقد عَبَّر أغلبهم عن استيائهم جَرَّاء ما آلت إليه المدينة.[ْ 17][ْ 18]
ونتيجة لتفاقم هذه الوضعية توَلَّت السلط الجهوية عقد العديد من الجلسات بحضور كافة الأطراف المعنية، وتم الاتفاق على مساعدة البلدية وذلك بإيقاف الزحف العمراني، والقيام بحملة مُكَثَّفة لإيقاف مختلف أشغال البناء بالمنطقة وتنبيه أصحابها،[ْ 19] وقد سارع مجلس الولاية بإقامة سياج حول ما تبقى من المدينة، مع حراستها باستمرار ريثما يتم تنفيذ المراحل الأولى من صيانة هذه المنطقة، والشروع في الحفريات اللازمة لتحويلها لمنتزه أثري لإبراز تاريخ الدولة الفاطمية وأهمية المدينة آنذاك، وقد دعا والي القيروان إلى إيجاد آلية تنسيق بين الأطراف المتدخلة لتشكيل لجنة تكتسي صبغة قانونية لمحاولة إنقاذ المدينة. كما أكّد مسؤول بلدي إلى أن البلدية قد أصدرت 7 قرارات هدم سنة 1998 لكنها لم تُنَفَّذ حتى سنة 2015 بواسطة القوة العامة.[ْ 20][26][ْ 21] في 27 مايو2018، دعا مجموعة من سكان القيروان بلدية المدينة ووزارة الثقافة والسلط الجهوية لأجل تطبيق القانون المتعلق بالمنصورية بصفتها منطقة خضراء ذات صبغة أثرية من أجل وقف نزيف البناء الفوضوي فوق الحفريات والآثار المدفونة تحت الأرض.[ْ 22]
علم الآثار
يُؤَكد المسح الجوي للموقع وجود سياج اصطناعي كبير دائري الشكل تقريباً، وبداخله ما بقي من أحواض دائريةومستطيلة.[1] ويُمكِن التعرف على هذه الأحواض عن طريق تلك الأحواض الاصطناعية التي تحدث عنها “شاعر المحكمة“ محمد بن علي العيادي، والتي كانت تحيط بالقصر.[28] وقد تم اكتشاف المباني من خلال عمليات الحفروالتنقيب الأثرية،[29] وكذلك آثار من أعمدة القاعة الكبرى[18] وكذلك أجزاء من القناة.[17]
وما بين عامي 2003و2008، تم تنفيذ مشروع أكثر حرصاََ، مع بذل مجهود أكبر لوضع شظايا الجص في أماكنها، وتجميع أكثر من 6000 قطعة تم العثور عليها بعد عمليات التنقيب. وكان هُناك دليل على وجود عدة مراحل متعددة من الأشغال مع أشكال وأنماط مختلفة من الزينةوالزخارف بما في ذلك نقوش وزخارف لزهوروأوراق نباتات وأُخرى هندسية وثالثة لعناصر حيوانيةوبشرية وكذلك نقوش نصية. وهُناك تُوجد بعض الزخارف تُشبِه الأعمال الزخرفية في تونس لحقبة ما قبل الإسلام، بينما هُناك زخارف أُخرى تُشبِه الزخارف المعروفة في مواقع وأماكن إسلامية أخرى في تونس.[31] وكانت الشواهد على التبادل الثقافي مع مصر أقل من المتوقع، بينما يظهر قدر كبير ومفاجئ من التواصل مع بلاد الأندلس رغم العداوة المتواصلة التي كانت بين الفاطميينوبني أمية في بلاد الأندلس.[32]
^"يبلغ الذراع حوالي 18 بوصة (460 مم)، وبذلك فإن عرض هذا السور البالغ 12 ذراعاً هو 18 قدم (5.5 متر)"
المراجع
باللغة العربية
^محمد بوذينة. تونسيون في تاريخ الحضارات (ط. الأولى). منشورات محمد بوذينة، 1998. ISBN:9789973261366. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |تاريخ الوصول= (مساعدة) والوسيط |تاريخ الوصول بحاجة لـ |مسار= (مساعدة)
^محمد العجابي (1992). دائرة المعارف التونسية، المجلد 3. مؤسسة بيت الحكمة. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |تاريخ الوصول= (مساعدة) والوسيط |تاريخ الوصول بحاجة لـ |مسار= (مساعدة)
^حسن الأمين. دائرة المعارف الإسلامية الشيعية، المجلد 10. دار التعارف للمطبوعات، 1990. {{استشهاد بكتاب}}: تحقق من التاريخ في: |تاريخ الوصول= (مساعدة) والوسيط |تاريخ الوصول بحاجة لـ |مسار= (مساعدة)
Bloom، Jonathan M. (1 يونيو 1985)، Grabar، Oleg (المحرر)، "The origins of Fatimid art"، Muqarnas: An Annual on Islamic Art and Architecture، Brill، ج. 3، ص. 161، ISBN:9789004076112، مؤرشف من الأصل في 2020-03-17، اطلع عليه بتاريخ 2013-10-25{{استشهاد}}: الوسيط غير المعروف |lingua3= تم تجاهله (مساعدة)
Denoix، Sylvie (2008)، Jayyusi، Salma Khadra؛ Renata، Holod؛ Petruccioli، Attilio؛ Raymond، André (المحررون)، The City in the Islamic World، Brill، ISBN:9789004171688، مؤرشف من الأصل في 2017-02-17، اطلع عليه بتاريخ 2013-10-25{{استشهاد}}: الوسيط غير المعروف |lingua3= تم تجاهله (مساعدة)