في عام 471 هـ استطاع تتش الأستيلاء على دمشق ومن ثم حلب في عام 478هـ واستطاع في آخر الأمر أن يسيطر على العديد من مناطق بلاد الشام ويتبعها لدولته. وجرت بينه وبين ابن أخيه بركياروق منافرات ومشاجرات أدت إلى المحاربة، بالقرب من مدينة الري في سنة 487هـ، فهزم تتش وقتل في المعركة، وأغرقه ابن عمه في نهر دجلة، في شهر ربيع الأول من عام 487هـ/1094م.[3]
أَسند إليه أخوه ملك شاه حكم بلاد الشام سنة 470هـ - 1077م، وكلفه ضم ما يستطيع من الأقاليم المجاورة إلى حوزة السلاجقة. لقد كانت بلاد الشام قبل وصول السلاجقة إليها موزعة بين عدة قوى، فقد حكم المرداسيون مدينة حلب وما يحيط بها، وخلفهم في حكمها العقيليون بقيادة مسلم بن قريش (477 - 479هـ)، وكان بنو عمار في طرابلس، وقضاة بني عقيل في صيدا، والفاطميون يحكمون جنوبي بلاد الشام وساحله.[7]
في هذه الأوضاع، وصل أتسز بن أوق التركماني إلى بلاد الشام، وتمكن من الاستيلاء على الرملةوبيت المقدس من الفاطميين سنة 463هـ وعلى دمشق سنة 468هـ، ولكنهُ أخفق في محاولته غزو مصر سنة 470هـ -1077م، فشجّع هذا الإخفاق الفاطميين، فحاولوا استعادة دمشق وبيت المقدس، بقيادة أمير الجيوش بدر الجمالي، مما دفع بأتسز إلى الاستنجاد بتتش، الذي كان يحاصر حلب، ويعمل على الاستيلاء عليها. فترك وتوجه إلى دمشق، فلما علم قائد الجيش الفاطمي بأنباء اقتراب تتش انسحب عنها، فدخلها تتش دخول الظافرين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة 471هـ = 1079م، واتخذها مقرًا له، ثم ما لبث أن تخلص من أتسز. وبدأ بذلك تأسيس دولة السلاجقة في بلاد الشام.[7]
الاستيلاء على حلب
أحسن تتش السيرة في دمشق، وعمل على التوسع في المناطق المحيطة بها، فاستولى في السنة نفسها على صيدا، وحصن ابن عكار، وطبرية والرملة ويافا، وبيت المقدس، وحاول الاستيلاء على حلب، فحاصرها من دون جدوى، ثم ارتدّ عنها، وأخذ يستولي على ما جاورها من المدن، مثل بُزاعَة، والبيرة. أدت محاولات تتش المتكررة للاستيلاء على حلب، إلى استنجاد أهلها بمسلم بن قريش العقيلي -صاحب الموصل- للدفاع عن مدينتهم، فتمكن مسلم من القضاء على الدولة المرداسية، ودخل حلب، وحصل على اعتراف السلطان ملك شاه بحكمه لمدينة حلب. أغضب هذا التصرف تاج الدولة تتش، فقرر إرسال الجيوش لقتال مسلم بن قريش ولكن مسلمًا بادره بإرسال الجيوش لمحاصرة مدينة دمشق نفسها سنة 476هـ / 1083م. وما لبث أن اضطر لترك الحصار، بعد أن علم باسترداد سليمان بن قتلمش، أمير سلاجقة الروم، لمدينة أنطاكية من البيزنطيين، والنفوذ الواسع الذي صار له في الشام، ومطامعه في حلب.[7]
دارت بين سليمان بن قتلمش ومسلم بن قريش معركة قرب أنطاكية سنة 478هـ /1085م انتهت بهزيمة مسلم ومقتله، ومع ذلك فقد أخفق سليمان في دخول حلب بعد حصارها. أدت مطامع كل من سليمان بن قتلمش وتتش بن ألب أرسلان في الاستيلاء على حلب إلى وقوع خلاف بينهما، نتج منه وقوع معركة طاحنة بالقرب من حلب، انتهت بانتصار تتش، ومقتل سليمان بن قتلمش سنة 479هـ - 1086م، ودخل تتش حلب، وضمها إلى حوزته وصار سيد الموقف في بلاد الشام. واستاء ملك شاه من هذا الصراع بين أفراد أسرة السلاجقة، ومن اتساع نفوذ أخيه تتش، فآثر أن يتوجه بنفسه إلى المنطقة، فوصل إلى الجزيرة الفراتية في جمادى الآخرة من العام نفسه، وأخضع في طريقه ما صادفه من قلاع، ثم توجه إلى حلب، فلما اقترب منها، أخلاها تتش ورحل إلى دمشق، فدخل ملك شاه المدينة، وطمأن أهلها، وخلف عليها آق سنقر قسيم الدولة، والد عماد الدين زنكي، واليًا عليها. وبذلك تقلص نفوذ تتش ثانية.[7]
الصراع بين تتش وبركياروق
توفي السلطان ملك شاه سنة 485هـ، فكان ذلك إيذانًا بتفكيك إمبراطورية السلاجقة، فطمع تتش بالوصول إلى السلطنة، منافسًا في ذلك ابن أخيه بركيارق الابن الأكبر لملك شاه. وتمكن تتش في بداية الأمر، من أن يضم إليه كلًا من بوزان صاحب الرهاوحرَّان، وآق سنقر صاحب حلب وياغي سيان صاحب أنطاكية، فاستولى بمساعدتهم على نصيبين، وكان قاسيًا في معاملته لأهلها. ثم استولى على آمدوميافارقين والموصل. ودخل إلى فارس. وما لبث أن انفصل عنه بوزان وآق سنقر، وانضما إلى بركياروق، الوريث الشرعي للعرش، ولم يبق مع تتش إلا ياغي سيان، فآثر تتش الارتداد على بلاد الشام لجمع الأنصار، فلاحقه أنصار بركياروق، فالتقى بهم في معركة عند تل السلطان على مسافة ستة فراسخ جنوبي حلب، فانتصر تتش، وقتل آق سنقر سنة 487هـ، وتمكن بذلك من الدخول إلى حلب، كما قتل بوزان، وحمل كربوقا أسيرًا إلى حمص.[7]
كان كان «تتش بن ألب أرسلان» يُنكر لقسيم الدولة خيره وفضله، ويحقد عليه لصلاحه وورعه، أو يغار منه، وكان تتش يطمع في بسط سيطرته على الشام بكاملها، وفي وجود مثل هذا الحاكم العادل في حلب فإنَّ ذلك سيصعب عليه؛ فالناس يحبونه، وكذلك السلطان ملكشاه. لقد كان تتش ذكيًّا في شرِّه فبدأ في السعي لضمِّ كل الإمارات الشامية باستثناء حلب؛ لأنه يعلم أن ملكشاه يحبُّ آق سنقر، فلا داعي لاستثارة السلطان عليه، ثم إنه أثار حملة السلطان لمساعدته بأن ذكر له أن بقية الإمارات الشامية واقعة تحت تهديد النفوذ الفاطمي، فأمر السلطان ملكشاه أمراء الشام بما فيهم آق سنقر أن يساعدوا تتش في حروبه ضدَّ الفاطميين.[8]
لكن قسيم الدولة كان يُدرك أطماع تتش الانفصالية، وكان في الوقت نفسه عظيم الوفاء للسلطان ملكشاه، لكنه لم يستطع أن يطعن في تتش لكونه أخَا ملكشاه، وهذا دفعه لمساعدة تتش بغير حماسة؛ [9] مما أوغر صدر تتش عليه أكثر وأكثر، بل وراسل أخاه السلطان ملكشاه في أمر قسيم الدولة.أراد السلطان ملكشاه أن يحلَّ الأزمة برفق؛ فهو لا يُريد أن يُغضب كلا الطرفين؛ ومن ثَمَّ فقد استدعى كل أمراء الشام بما فيهم آق سنقر وتتش إلى مقرِّه في فارس ليتباحثوا في أمر الشام، وهناك قام تتش بصراحة باتهام آق سنقر بعدم الإخلاص للسلاجقة، وهذا دفع آق سنقر لأن يدافع عن نفسه؛ بل واتهم تتش بالكذب، ومن العجب أن السلطان ملكشاه أقرَّ آق سنقر على رأيه، ورفض عزله، وأوصى أخاه تتش بعدم التعرُّض له.[10]
وكان هذا اللقاء في شهر رمضان484 هـ، أي بعد 5 سنوات من ولاية آق سنقر على حلب، لكن في السنة التالية حدث أمر هام وهو وفاة ملكشاه بن ألب أرسلان في (شوال 485 هـ الموافق نوفمبر 1092م)، وتولَّى بَرْكيَارُوق ابنه الأكبر الولاية على السلطنة السلجوقية الكبرى،[11] وهذا أغضب تتش الذي كان يطمع في هذا المنصب الرفيع؛ ولذلك قرَّر تتش أن يتحرَّك بالقوَّة العسكرية لحرب ابن أخيه بَرْكيَارُوق، والسيطرة على السلطنة بالقوَّة. ولكن تتش كان يخشى من وجود قوَّة آق سنقر خلف ظهره، وفي الوقت نفسه كان يُريد أن يستغلَّ قوَّته العسكرية الكبيرة في تحقيق مطامعه، فأمره أن يأتي على رأس جيشه ليُعاونه في حرب بَرْكيَارُوق بن ملكشاه. فوقع قسيم الدولة آق سنقر في أزمة كبيرة؛ فهو يعلم أن قوَّة تتش أكبر بكثير من قوَّته، وهو في النهاية أخو ملكشاه السلطان المتوفَّى، وعمُّ السلطان الحالي بَرْكيَارُوق، لكن في الوقت نفسه هو على وفائه للسلطان العظيم ملكشاه، ويُريد أن يحفظه في ابنه، كما أنه يعلم أطماع تتش، ويعلم أنه ليس بالشخصية الجديرة بحكم المسلمين. لقد فكَّر قسيم الدولة آق سنقر في خطَّة خطيرة، قد يدفع ثمنها من حياته يومًا ما، لكن لم يجد أمامه حلاًّ آخر، فقرَّر أن يخرج بجيشه مع تتش، ويوهمه أنه سيقاتل معه، فإذا التقى الجيشان، ترك قسيم الدولة جيش تتش وانضمَّ إلى جيش بَرْكيَارُوق.[12]
فقسيم الدولة كان يرى أن الحقَّ مع بَرْكيَارُوق، لكونه أصلح وأتقى من تتش؛ ولذلك ضحَّى بأمنه وحياته من أجل الدفاع عن هذا الحقِّ. ونفَّذ قسيم الدولة خطته، وفي سنة 486 هـ التقى جيش تتش مع جيش بَرْكيَارُوق في مدينة الرَّيِّ بفارس، وفعلاً انسحب آق سنقر بجيشه وانضمَّ إلى بَرْكيَارُوق، وفعل الشيء نفسه أمير الرها بوزان، وكان وفيًّا كذلك للسلطان الراحل ملكشاه، فاختلَّ توازن جيش تتش؛ ومن ثَمَّ انسحب مهزومًا من الرَّيِّ، وعاد إلى الشام بخُفَّي حُنَيْن، لكنه عاد بقلبٍ أشدَّ حقدًا على قسيم الدولة آق سنقر.[13]
أعاد بَرْكيَارُوق قسيم الدولة آق سنقر إلى إمارة حلب تابعًا له، وذلك في ذي القعدة (486هـ)، وأمدَّه بقوات إضافية؛ لأنه كان يتوقَّع ضربة انتقامية وشيكة من تتش. وسرعان ما جاءت هذه الضربة؛ فقد جمع تتش عدَّة جيوش، وتقدَّم صوب حلب لامتلاكها، وخرج له قسيم الدولة بعد أن استغاث ببعض الأمراء التابعين لبَرْكيَارُوق، لكنَّ الأمراء تأخَّرُوا في القدوم؛ مما جعل قسيم الدولة يُواجه تتش بجيشه وحده، وكانت هزيمة مفجعة، وأُسِرَ آق سنقر، وقام تتش بقتله على الفور.[14]
مقتله
صار الطريق إلى المشرق مفتوحًا أمام تتش، فتوجه لقتال ابن أخيه بركياروق، ولما وصل إلى همذان فر منه بركياروق، والتجأ إلى أصفهان. وأخذ يجمع الأنصار حوله، ثم هاجم تتش بالمقرب من مدينة الرَّي، ودارت بينهما رحى معركة طاحنة، في في يوم الأحد سابع عشر صفر سنة 488هـ / 26 فبراير 1095م، انهزم فيها تتش لانفضاض أنصاره عنه، وسقط قتيلًا في المعركة، بعد أن أبدى مهارة فائقة، فاستبيح عسكره ونهب. وبذلك أخفق تتش في الوصول إلى السلطنة، وخسر حياته بسببها.[7]
قال عنه الذهبي: «كان شجاعا مهيبا جبارا، ذا سطوة، ولهُ فتوحات ومصافات، وتملك عدة مدائن، وخطب لهُ ببغداد، وصار من كبار ملوك الزمان .. وكان يتغالى في حب الشيخ أبي الفرج الحنبلي (شيخ الحنابلة في وقته)، ويحضر مجلسه، فعقد له ولخصومه في مسألة القرآن مجلسا، فقال تتش: هذا مثل ما يقول، هذا قباء حقيقة ليس هو بحرير، ولا قطن، ولا كتان، ولا صوف».[3][7][15]